سورة السجدة - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (السجدة)


        


قوله: {الم} قد قدمنا الكلام على فاتحة هذه السورة وعلى محلها من الإعراب في سورة البقرة وفي مواضع كثيرة من فواتح السور، وارتفاع {تَنزِيلَ} على أنه خبر لمبتدأ محذوف أو خبر بعد خبر على تقدير أنّ {الم} في محل رفع على أنه خبر لمبتدأ محذوف، أو خبر لقوله: {الم} على تقدير أنه اسم للسورة، و{لاَ رَيْبَ فِيهِ} في محل نصب على الحال، ويجوز أن يكون ارتفاع {تنزيل} على أنه مبتدأ وخبره لا ريب فيه، و{من ربّ العالمين} في محل نصب على الحال، ويجوز أن تكون هذه كلها أخباراً للمبتدأ المقدر قبل {تنزيل}، أو لقوله: {الم} على تقدير أنه مبتدأ لا على تقدير أنه حروف مسرودة على نمط التعديد. قال مكي: وأحسن الوجوه: أن تكون {لا ريب فيه} في موضع الحال، و{مِن رَّبّ العالمين} الخبر، والمعنى على هذه الوجوه: أن تنزيل الكتاب المتلوّ لا ريب فيه ولا شك وأنه منزل من ربّ العالمين، وأنه ليس بكذب ولا سحر ولا كهانة ولا أساطير الأوّلين.
و {أم} في: {أَمْ يَقُولُونَ افتراه} هي المنقطعة التي بمعنى: بل، والهمزة، أي بل أيقولون هو مفترى؟ فأضرب عن الكلام الأوّل إلى ما هو معتقد الكفار مع الاستفهام المتضمن للتقريع والتوبيخ، ومعنى {افتراه}: افتعله واختلقه، ثم أضرب عن معتقدهم إلى بيان ما هو الحق في شأن الكتاب، فقال: {بَلْ هُوَ الحق مِن رَّبّكَ} فكذبهم سبحانه في دعوى الافتراء، ثم بيّن العلة التي كان التنزيل لأجلها، فقال: {لِتُنذِرَ قَوْماً مَّا أتاهم مّن نَّذِيرٍ مّن قَبْلِكَ} وهم العرب وكانوا أمة أمية لم يأتهم رسول. وقيل: قريش خاصة، والمفعول الثاني {لتنذر} محذوف، أي لتنذر قوماً العقاب، وجملة: {ما أتاهم من نذير} في محل نصب على الحال، و{من قبلك} صفة لنذير. وجوّز أبو حيان أن تكون ما موصولة، والتقدير: لتنذر قوماً العقاب الذي أتاهم من نذير من قبلك، وهو ضعيف جدّاً، فإن المراد: تعليل الإنزال بالإنذار لقوم لم يأتهم نذير قبله، لا تعليله بالإنذار لقوم قد أنذروا بما أنذرهم به. وقيل: المراد بالقوم: أهل الفترة ما بين عيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم {لَّعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ} رجاء أن يهتدوا، أو كي يهتدوا.
{الله الذي خَلَقَ السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ استوى عَلَى العرش} قد تقدّم تفسير هذه الآية في سورة الأعراف، والمراد من ذكرها هنا: تعريفهم كمال قدرته وعظيم صنعه ليسمعوا القرآن ويتأملوه، ومعنى خلق: أوجد وأبدع. قال الحسن: الأيام هنا هي من أيام الدنيا. وقيل: مقدار اليوم ألف سنة من سني الدنيا، قاله الضحاك.
فعلى هذا المراد بالأيام هنا: هي من أيام الآخرة لا من أيام الدنيا، وليست ثم للترتيب في قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش}، وقد تقدّم تفسير هذا مستوفى {مَا لَكُمْ مّن دُونِهِ مِن وَلِيّ وَلاَ شَفِيعٍ} أي ليس لكم من دون الله أو من دون عذابه من ولى يواليكم ويردّ عنكم عذابه، ولا شفيع يشفع لكم عنده {أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ} تذكر تدبر وتفكر وتسمعون هذه المواعظ سماع من يفهم ويعقل حتى تنتفعوا بها.
{يُدَبّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض} لما بيّن سبحانه خلق السماوات والأرض وما بينهما، بيّن تدبيره لأمرهما، أي يحكم الأمر بقضائه وقدره من السماء إلى الأرض، والمعنى: ينزل أمره من أعلى السماوات إلى أقصى تخوم الأرض السابعة، كما قال سبحانه: {الله الذي خَلَقَ سَبْعَ سموات وَمِنَ الأرض مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الأمر بَيْنَهُنَّ} [الطلاق: 12] ومسافة ما بين سماء الدنيا والأرض التي تحتها نزولاً وطلوعاً ألف سنة من أيام الدنيا. وقيل: المراد بالأمور: المأمور به من الأعمال، أي ينزله مدبراً من السماء إلى الأرض. وقيل: يدبر أمر الدنيا بأسباب سماوية من الملائكة وغيرها نازلة أحكامها وآثارها إلى الأرض. وقيل: ينزل الوحي مع جبريل. وقيل: العرش موضع التدبير كما أن ما دون العرش موضع التفصيل كما في قوله: {ثُمَّ استوى عَلَى العرش يُدَبّرُ الأمر يُفَصّلُ الآيات} [الرعد: 2] وما دون السماوات موضع التصرّف. قال الله: {وَلَقَدْ صرفناه بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُواْ} [الفرقان: 50].
ثم لما ذكر سبحانه تدبير الأمر قال: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مّمَّا تَعُدُّونَ} أي ثم يرجع ذلك الأمر، ويعود ذلك التدبير إليه سبحانه في يوم مقداره ألف سنة من أيام الدنيا، وذلك باعتبار مسافة النزول من السماء والطلوع من الأرض كما قدّمنا. وقيل: إن المراد أنه يعرج إليه في يوم القيامة الذي مقداره ألف سنة من أيام الدنيا، وذلك حين ينقطع أمر الدنيا ويموت من فيها. وقيل: هي أخبار أهل الأرض تصعد إليه مع من يرسله إليها من الملائكة، والمعنى: أنه يثبت ذلك عنده، ويكتب في صحف ملائكته ما عمله أهل الأرض في كلّ وقت من الأوقات إلى أن تبلغ مدة الدنيا آخرها. وقيل: معنى يعرج إليه: يثبت في علمه موجوداً بالفعل في برهة من الزمان هي مقدار ألف سنة، والمراد: طول امتداد ما بين تدبير الحوادث وحدوثها من الزمان. وقيل: يدبر أمر الحوادث اليومية بإثباتها في اللوح المحفوظ فتنزل بها الملائكة، ثم تعرج إليه في زمان هو كألف سنة من أيام الدنيا. وقيل: يقضي قضاء ألف سنة، فتنزل به الملائكة، ثم تعرج بعد الألف لألف آخر. وقيل: المراد: أن الأعمال التي هي طاعات يدبرها الله سبحانه وينزل بها ملائكته ثم لا يعرج إليه منها إلا الخالص بعد مدّة متطاولة لقلة المخلصين من عباده.
وقيل: الضمير في: {يعرج} يعود إلى الملك، وإن لم يجر له ذكر لأنه مفهوم من السياق، وقد جاء صريحاً في قوله: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ} [المعارج: 4] والضمير في إليه يرجع إلى السماء على لغة من يذكرها، أو إلى مكان الملك الذي يرجع إليه وهو الذي أقرّه الله فيه. وقيل: المعنى: يدبر أمر الشمس في طلوعها وغروبها ورجوعها إلى موضعها من الطلوع في يوم كان مقداره في المسافة ألف سنة، وقيل: المعنى: أن الملك يعرج إلى الله في يوم كان مقداره لو ساره غير الملك ألف سنة؛ لأن ما بين السماء والأرض مسافة خمسمائة عام، فمسافة النزول من السماء إلى الأرض والرجوع من الأرض إلى السماء ألف عام، وقد رجّح هذا جماعة من المفسرين منهم ابن جرير. وقيل: مسافة النزول ألف سنة ومسافة الطلوع ألف سنة روي ذلك عن الضحاك. وهذا اليوم هو عبارة عن زمان يتقدر بألف سنة، وليس المراد به مسمى اليوم الذي هو مدّة النهار بين ليلتين، والعرب قد تعبر عن المدة باليوم كما قال الشاعر:
يومان يوم مقامات وأندية *** ويوم سير إلى الأعداء تأديب
فإن الشاعر لم يرد يومين مخصوصين. وإنما أراد أن زمانهم ينقسم شطرين، فعبر عن كل واحد من الشطرين بيوم، قرأ الجمهور: {يعرج} على البناء للفاعل. وقرأ ابن أبي عبلة على البناء للمفعول، والأصل: يعرج به ثم حذف حرف الجار فاستتر الضمير.
وقد استشكل جماعة الجمع بين هذه الآية وبين قوله سبحانه: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] فقيل في الجواب: إن يوم القيامة مقداره ألف سنة من أيام الدنيا، ولكنه باعتبار صعوبته وشدة أهواله على الكفار كخمسين ألف سنة، والعرب تصف كثيراً يوم المكروه بالطول، كما تصف يوم السرور بالقصر، كما قال الشاعر:
ويوم كظل الرمح قصر طوله *** دم الزق عنا واصطفاف المزاهر
وقول الآخر:
ويوم كإبهام القطاة قطعته ***
وقيل: إن يوم القيامة فيه أيام؛ فمنها ما مقداره ألف سنة، ومنها ما مقداره خمسون ألف سنة. وقيل: هي أوقات مختلفة يعذب الكافر بنوع من أنواع العذاب ألف سنة، ثم ينقل إلى نوع آخر، فيعذب به خمسين ألف سنة. وقيل: مواقف القيامة خمسون موقفاً كل موقف ألف سنة، فيكون معنى {يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ}: أنه يعرج إليه في وقت من تلك الأوقات أو موقف من تلك المواقف.
وحكى الثعلبي عن مجاهد وقتادة والضحاك أنه أراد سبحانه في قوله: {تَعْرُجُ الملائكة والروح إِلَيْهِ فِى يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} [المعارج: 4] المسافة من الأرض إلى سدرة المنتهى التي هي مقام جبريل، والمراد: أنه يسير جبريل ومن معه من الملائكة في ذلك المقام إلى الأرض مسيرة خمسين ألف سنة في مقدار يوم واحد من أيام الدنيا، وأراد بقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} المسافة التي بين الأرض وبين سماء الدنيا هبوطاً وصعوداً فإنها مقدار ألف سنة من أيام الدنيا.
وقيل: إن ذلك إشارة إلى امتداد نفاذ الأمر؛ وذلك لأن من نفذ أمره غاية النفاذ في يوم أو يومين وانقطع لا يكون مثل من ينفذ أمره في سنين متطاولة، فقوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} يعني: يدبر الأمر في زمان يوم منه ألف سنة. فكم يكون الشهر منه؟ وكم تكون السنة منه؟ وعلى هذا فلا فرق بين ألف سنة وبين خمسين ألف سنة. وقيل: غير ذلك.
وقد وقف حبر الأمة ابن عباس لما سئل عن الآيتين كما سيأتي في آخر البحث إن شاء الله. قرأ الجمهور: {مّمَّا تَعُدُّونَ} بالفوقية على الخطاب، وقرأ الحسن والسلمي وابن وثاب والأعمش بالتحتية على الغيبة.
والإشارة بقوله: {ذلك} إلى الله سبحانه باعتبار اتصافه بتلك الأوصاف، وهو مبتدأ وخبره: {عالم الغيب والشهادة} أي العالم بما غاب عن الخلق وما حضرهم. وفي هذا معنى التهديد لأنه سبحانه إذا علم بما يغيب وما يحضر، فهو مجاز لكل عامل بعمله، أو فهو يدبر الأمر بما تقتضيه حكمته {العزيز} القاهر الغالب {الرحيم} بعباده، وهذه أخبار لذلك المبتدأ، وكذلك قوله: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ} هو خبر آخر. قرأ الجمهور: {خلقه} بفتح اللام. وقرأ ابن كثير وأبو عمرو وابن عامر بإسكانها، فعلى القراءة الأولى هو فعل ماض نعتاً لشيء، فهو في محل جرّ.
وقد اختار قراءة الجمهور أبو عبيد وأبو حاتم، ويجوز أن تكون صفة للمضاف، فيكون في محل نصب. وأما على القراءة الثانية ففي نصبه أوجه: الأوّل: أن يكون بدلاً من كل شيء بدل اشتمال، والضمير عائد إلى كل شيء، وهذا هو الوجه المشهور عند النحاة. الثاني: أنه بدل كل من كل، والضمير راجع إلى الله سبحانه، ومعنى {أحسن}: حسن، لأنه ما من شيء إلا وهو مخلوق على ما تقتضيه الحكمة، فكل المخلوقات حسنة. الثالث: أن يكون {كل شيء} هو المفعول الأوّل، و{خلقه} هو المفعول الثاني على تضمين أحسن معنى: أعطى، والمعنى: أعطى كل شيء خلقه الذي خصّه به. وقيل: على تضمينه معنى: ألهم. قال الفراء: ألهم خلقه كل شيء مما يحتاجون إليه. الرابع: أنه منصوب على المصدر المؤكد لمضمون الجملة، أي خلقه خلقاً كقوله: {صُنْعَ الله} [النمل: 88] وهذا قول سيبويه. والضمير يعود إلى الله سبحانه. والخامس: أنه منصوب بنزع الخافض، والمعنى: أحسن كل شيء في خلقه، ومعنى الآية: أنه أتقن، وأحكم خلق مخلوقاته، فبعض المخلوقات وإن لم تكن حسنة في نفسها، فهي متقنة محكمة، فتكون هذه الآية معناها معنى: {أعطى كُلَّ شَئ خَلْقَهُ} [طه: 50] أي لم يخلق الإنسان على خلق البهيمة، وخلق لا البهيمة على خلق الإنسان. وقيل: هو عموم في اللفظ خصوص في المعنى، أي أحسن. خلق كل شيء حسن.
{وَبَدَأَ خَلْقَ الإنسان مِن طِينٍ} يعني: آدم: خلقه من طين، فصار على صورة بديعة وشكل حسن {جَعَلَ نَسْلَهُ} أي ذريته {مِن سلالة} سميت الذرية سلالة؛ لأنها تسلّ من الأصل، وتنفصل عنه، وقد تقدم تفسيرها في سورة المؤمنون؛ ومعنى {مّن مَّاء مَّهِينٍ}: من ماء ممتهن لا خطر له عند الناس وهو المنيّ.
وقال الزجاج: من ماء ضعيف. {ثُمَّ سَوَّاهُ} أي الإنسان الذي بدأ خلقه من طين، وهو آدم، أو جميع النوع. والمراد: أنه عدل خلقه وسوّى شكله وناسب بين أعضائه {وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُّوحِهِ} الإضافة للتشريف والتكريم، وهذه الإضافة تقوّي أن الكلام في آدم لا في ذريته، وإن أمكن توجيهه بالنسبة إلى الجميع. ثم خاطب جميع النوع فقال: {وَجَعَلَ لَكُمُ السمع والأبصار والأفئدة} أي خلق لكم هذه الأشياء تكميلاً لنعمته عليكم وتتميماً لتسويته لخلقكم حتى تجتمع لكم النعم، فتسمعون كل مسموع وتبصرون كل مبصر، وتتعقلون كل متعقل، وتفهمون كل ما يفهم. وأفرد السمع لكونه مصدراً يشمل القليل والكثير، وخص السمع بذكر المصدر دون البصر والفؤاد فذكرهما بالاسم ولهذا جمعا؛ لأن السمع قوّة واحدة ولها محل واحد، وهو الأذن ولا اختيار لها فيه، فإن الصوت يصل إليها ولا تقدر على ردّه. ولا على تخصيص السمع ببعض المسموعات دون بعض؛ بخلاف الأبصار، فمحلها العين وله فيه اختيار، فإنها تتحرّك إلى جانب المرئي دون غيره، وتطبق أجفانها إذا لم ترد الرؤية لشيء؛ وكذلك الفؤاد له نوع اختيار في إدراكه، فيتعقل هذا دون هذا، ويفهم هذا دون هذا. قرأ الجمهور: {وبدأ} بالهمز، والزهري بألف خالصة بدون همز، وانتصاب {قَلِيلاً مَّا تَشْكُرُونَ} على أنه صفة مصدر محذوف، أي شكراً قليلاً، أو صفة زمان محذوف، أي زماناً قليلاً. وفي هذا بيان لكفرهم لنعم الله. وتركهم لشكرها إلا فيما ندر من الأحوال. {وَقَالُواْ أَءِذَا ضَلَلْنَا فِي الأرض} قد تقدم اختلاف القراء في هذه الهمزة وفي الهمزة التي بعدها. والضلال: الغيبوبة، يقال: ضلّ الميت في التراب: إذا غاب وبطل، والعرب تقول للشيء إذا غلب عليه غيره حتى خفي أثره: قد ضلّ، ومنه قول الأخطل:
كنت القذى في موج أكدر مزبد *** قذف الأتيّ بها فضلّ ضلالا
قال قطرب: معنى ضللنا في الأرض: غبنا في الأرض. قرأ الجمهور {ضللنا} بفتح ضاد معجمة ولام مفتوحة بمعنى: ذهبنا وضعنا وصرنا تراباً وغبنا عن الأعين، وقرأ يحيى بن يعمر وابن محيصن وأبو رجاء: {ضللنا} بكسر اللام، وهي لغة العالية من نجد.
قال الجوهري: وأهل العالية يقولون: ضللت بالكسر. قال: وأضله، أي: أضاعه، وأهلكه، يقال: ضلّ الميت: إذا دفن. وقرأ عليّ بن أبي طالب والحسن والأعمش وأبان بن سعيد: {صللنا} بصاد مهملة ولام مفتوحة، أي أنتنا. قال النحاس: ولا يعرف في اللغة: صللنا، ولكن يقال: صلّ اللحم إذا أنتن. قال الجوهري: صلّ اللحم: يصلّ بالكسر صلولاً: إذا أنتن، مطبوخاً كان أو نيئاً، ومنه قول الحطيئة:
ذاك فتى يبذل ذا قدرة *** لا يفسد اللحم لديه الصلول
{أَءِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ} أي نبعث، ونصير أحياء، والاستفهام للاستنكار، وهذا قول منكري البعث من الكفار، فأضرب الله سبحانه من بيان كفرهم بإنكار البعث إلى بيان ما هو أبلغ منه، وهو كفرهم بلقاء الله، فقال: {بَلْ هُم بِلَقَاء رَبّهِمْ كافرون} أي جاحدون له مكابرة وعناداً، فإن اعترافهم بأنه المبتدئ للخلق يستلزم اعترافهم بأنه قادر على الإعادة.
ثم أمر سبحانه رسوله صلى الله عليه وسلم: أن يبيّن لهم الحق ويردّ عليهم ما زعموه من الباطل، فقال: {قُلْ يتوفاكم مَّلَكُ الموت الذي وُكّلَ بِكُمْ} يقال: توفاه الله واستوفى روحه إذا قبضه إليه، وملك الموت هو: عزرائيل، ومعنى {وكل بكم}: وكل بقبض أرواحكم عند حضور آجالكم {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي تصيرون إليه أحياء بالبعث والنشور لا إلى غيره، فيجازيكم بأعمالكم، إن خيراً فخير، وإن شرّاً فشر.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس في قوله: {يُدَبّرُ الأمر} الآية قال: هذا في الدنيا، تعرج الملائكة في يوم مقداره ألف سنة.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم، والحاكم وصححه عنه في قوله: {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: من الأيام الستة التي خلق الله فيها السماوات والأرض.
وأخرج عبد الرزاق وسعيد بن منصور وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف، والحاكم وصححه عن عبد الله بن أبي مليكة قال: دخلت على عبد الله بن عباس أنا وعبد الله بن فيروز مولى عثمان بن عفان، فقال له ابن فيروز: يا أبا عباس، قوله: {يُدَبّرُ الأمر مِنَ السماء إِلَى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} فكأن ابن عباس اتهمه فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة؟ قال: إنما سألتك لتخبرني، فقال ابن عباس: هما يومان ذكرهما الله في كتابه الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله ما لا أعلم، فضرب الدهر من ضرباته حتى جلست إلى ابن المسيب، فسأله عنهما إنسان فلم يخبره، ولم يدر فقلت: ألا أخبرك بما حضرت من ابن عباس؟ قال: بلى، فأخبرته فقال للسائل: هذا ابن عباس قد أبى أن يقول فيها، وهو أعلم مني.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ} قال: لا ينتصف النهار في مقدار يوم من أيام الدنيا في ذلك اليوم حتى يقضي بين العباد، فينزل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار، ولو كان إلى غيره لم يفرغ في خمسين ألف سنة.
وأخرج ابن جرير عنه أيضاً في قوله: {ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ} من أيامكم هذه، ومسيرة ما بين السماء والأرض خمسمائة عام.
وأخرج ابن أبي شيبة، والحكيم الترمذي في نوادر الأصول، وابن جرير وابن المنذر عن ابن عباس: أنه كان يقرأ: {الذي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء خَلَقَهُ} قال: أما رأيت القردة ليست بحسنة، ولكنه أحكم خلقها.
وأخرج ابن أبي حاتم عنه أيضاً في الآية أنه قال: أما إن است القردة ليست بحسنة ولكنه أحكم خلقها، وقال: {خَلَقَهُ} صورته. وقال: {أَحْسَنَ كُلَّ شَيْء} القبيح والحسن والعقارب والحيات وكلّ شيء مما خلق، وغيره لا يحسن شيئاً من ذلك.
وأخرج الطبراني عن أبي أمامة قال: بينما نحن مع رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ لقينا عمرو بن زرارة الأنصاري في حلة قد أسبل، فأخذ النبي صلى الله عليه وسلم بناحية ثوبه، فقال: يا رسول الله، إني أحمش الساقين، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عمرو بن زرارة إن الله عز وجل قد أحسن كلّ شيء خلقه، يا عمرو بن زرارة إن الله لا يحب المسبلين».
وأخرج أحمد والطبراني عن الشريد بن سويد قال: أبصر النبي صلى الله عليه وسلم رجلاً قد أسبل إزاره، فقال: «ارفع إزارك»، فقال: يا رسول الله إني أحنف تصطك ركبتاي، فقال: «ارفع إزارك كلّ خلق الله حسن».


قوله: {وَلَوْ ترى إِذِ المجرمون نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ عِندَ رَبّهِمْ} المراد بالمجرمين هم: القائلون: {أئذا ضللنا}، والخطاب هنا لكل من يصلح له، أو لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويجوز أن يراد بالمجرمين كل مجرم، ويدخل فيه أولئك القائلون دخولاً أولياً، ومعنى {نَاكِسُواْ رُءوسِهِمْ}: مطأطئوها حياء وندماً على ما فرط منهم في الدنيا من الشرك بالله والعصيان له، ومعنى عند ربهم: عند محاسبته لهم. قال الزجاج: والمخاطبة للنبي صلى الله عليه وسلم مخاطبة لأمته، فالمعنى: ولو ترى يا محمد منكري البعث يوم القيامة لرأيت العجب {رَبَّنَا أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا} أي يقولون: ربنا أبصرنا الآن ما كنا نكذب به وسمعنا ما كنا ننكره. وقيل: أبصرنا صدق وعيدك، وسمعنا تصديق رسلك، فهؤلاء أبصروا حين لم ينفعهم البصر، وسمعوا حين لم ينفعهم السمع {فارجعنا} إلى الدنيا {نَعْمَلْ} عملاً {صالحا} كما أمرتنا {إِنَّا مُوقِنُونَ} أي مصدقون. وقيل: مصدقون بالذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وصفوا أنفسهم بالإيقان الآن طمعاً فيما طلبوه من إرجاعهم إلى الدنيا، وأنى لهم ذلك فقد حقت عليهم كلمة الله فإنهم {لَوْ رُدُّواْ لعادوا لِمَا نُهُواْ عَنْهُ وَإِنَّهُمْ لكاذبون} [الأنعام: 28]. وقيل: معنى {إِنَّا مُوقِنُونَ} أنها قد زالت عنهم الشكوك التي كانت تخالطهم في الدنيا لما رأوا ما رأوا وسمعوا ما سمعوا، ويجوز أن يكون معنى {أَبْصَرْنَا وَسَمِعْنَا}: صرنا ممن يسمع ويبصر فلا يحتاج إلى تقدير مفعول، ويجوز أن يكون صالحاً مفعولاً ل {نعمل} كما يجوز أن يكون نعتاً لمصدر محذوف، وجواب لو محذوف، أي لرأيت أمراً فظيعاً وهولاً هائلاً.
{وَلَوْ شِئْنَا لآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا} هذا ردّ عليهم لما طلبوا الرجعة، أي لو شئنا لآتينا كلّ نفس هداها فهدينا الناس جميعاً فلم يكفر منهم أحد. قال النحاس: في معنى هذا قولان: أحدهما: أنه في الدنيا، والآخر: أنه في الآخرة، أي ولو شئنا لرددناهم إلى الدنيا {ولكن حَقَّ القول مِنْي لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} وجملة: {ولو شئنا} مقدّرة بقول معطوف على المقدّر قبل قوله: {أبصرنا} أي ونقول لو شئنا، ومعنى {ولكن حَقَّ القول مِنْي} أي نفذ قضائي وقدري وسبقت كلمتي {لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجنة والناس أَجْمَعِينَ} هذا هو القول الذي وجب من الله وحقّ على عباده ونفذ فيه قضاؤه، فكان مقتضى هذا القول أنه لا يعطي كلّ نفس هداها، وإنما قضى عليهم بهذا؛ لأنه سبحانه قد علم أنهم من أهل الشقاوة، وأنهم ممن يختار الضلالة على الهدى.
والفاء في قوله: {فَذُوقُواْ بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} لترتيب الأمر بالذوق على ما قبله، والباء في {بما نسيتم} للسببية، وفيه إشعار بأن تعذيبهم ليس لمجرد سبق القول المتقدّم، بل بذاك وهذا واختلف في النسيان المذكور هنا، فقيل: هو النسيان الحقيقي، وهو الذي يزول عنده الذكر.
وقيل: هو الترك. والمعنى على الأوّل: أنهم لم يعملوا لذلك اليوم، فكانوا كالناسين له الذين لا يذكرونه. وعلى الثاني: لا بدّ من تقدير مضاف قبل لقاء، أي ذوقوا بسبب ترككم لما أمرتكم به عذاب لقاء يومكم هذا، ورجح الثاني المبرد وأنشد:
كأنه خارج من جنب صفحته *** سفود شرب نسوه عند مفتأد
أي تركوه، وكذا قال الضحاك ويحيى بن سلام: إن النسيان هنا بمعنى: الترك. قال يحيى بن سلام: والمعنى: بما تركتم الإيمان بالبعث في هذا اليوم تركناكم من الخير، وكذا قال السدّي، وقال مجاهد: تركناكم في العذاب.
وقال مقاتل: إذا دخلوا النار. قالت لهم الخزنة: ذوقوا العذاب بما نسيتم، واستعار الذوق للإحساس، ومنه قول طفيل:
فذوقوا كما ذقنا غداة محجة *** من الغيظ في أكبادنا والتحوّب
وقوله: {وَذُوقُواْ عَذَابَ الخلد بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} تكرير لقصد التأكيد، أي ذوقوا العذاب الدائم الذي لا ينقطع أبداً بما كنتم تعملونه في الدنيا من الكفر والمعاصي. قال الرازي في تفسيره: إن اسم الإشارة في قوله: {بِمَا نَسِيتُمْ لِقَاء يَوْمِكُمْ هذا} يحتمل ثلاثة أوجه: أن يكون إشارة إلى اللقاء، وأن يكون إشارة إلى اليوم، وأن يكون إشارة إلى العذاب.
وجملة: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئاياتنا} مستأنفة لبيان ما يستحق الهداية إلى الإيمان، ومن لا يستحقها. والمعنى: إنما يصدق بآياتنا وينتفع بها {الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً} لا غيرهم ممن يذكر بها، أي يوعظ بها ولا يتذكر ولا يؤمن بها، ومعنى {خرّوا سجداً}: سقطوا على وجوههم ساجدين تعظيماً لآيات الله وخوفاً من سطوته وعذابه {وَسَبَّحُواْ بِحَمْدِ رَبّهِمْ} أي نزّهوه عن كل ما لا يليق به ملتبسين بحمده على نعمه، التي أجلها وأكملها الهداية إلى الإيمان، والمعنى: قالوا في سجودهم: سبحان الله وبحمده، أو سبحان ربي الأعلى وبحمده.
وقال سفيان: المعنى: صلوا حمداً لربهم، وجملة: {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} في محل نصب على الحال، أي حال كونهم خاضعين لله، متذللين له غير مستكبرين عليه.
{تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} أي ترتفع وتنبو، يقال: جفى الشيء عن الشيء، وتجافى عنه: إذا لم يلزمه ونبا عنه، والمضاجع جمع: المضجع، وهو الموضع الذي يضطجع فيه. قال الزجاج والرماني: التجافي والتجفي إلى جهة فوق، وكذلك هو في الصفح عن المخطئ في سبّ ونحوه.
والجنوب جمع جنب، والجملة في محل نصب على الحال، أي متجافية جنوبهم عن مضاجعهم، وهم المتهجدون في الليل الذين يقومون للصلاة عن الفراش، وبه قال الحسن ومجاهد وعطاء والجمهور.
والمراد بالصلاة: صلاة التنفل بالليل من غير تقييد.
وقال قتادة وعكرمة: هو التنفل ما بين المغرب والعشاء. وقيل: صلاة العشاء فقط، وهو رواية عن الحسن وعطاء.
وقال الضحاك: صلاة العشاء والصبح في جماعة. وقيل: هم الذين يقومون لذكر الله سواء كان في صلاة أو غيرها {يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً}: هذه الجملة في محل نصب على الحال أيضاً من الضمير الذي في جنوبهم، فهي حال بعد حال، ويجوز أن تكون الجملة الأولى مستأنفة لبيان نوع من أنواع طاعاتهم، والمعنى: تتجافى جنوبهم حال كونهم داعين ربهم خوفاً من عذابه وطمعاً في رحمته {وَمِمَّا رزقناهم يُنفِقُونَ} أي من الذي رزقناهم أو من رزقهم، وذلك الصدقة الواجبة. وقيل: صدقة النفل، والأولى الحمل على العموم. وانتصاب {خوفاً} و{طمعاً} على العلة، ويجوز أن يكونا مصدرين منتصبين بمقدّر.
{فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} النكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي لا تعلم نفس من النفوس، أيّ نفس كانت، ما أخفاه الله سبحانه لأولئك الذين تقدّم ذكرهم، مما تقرّ به أعينهم، قرأ الجمهور {من قرّة} بالإفراد، وقرأ ابن مسعود وأبو هريرة وأبو الدرداء: {من قرّات} بالجمع، وقرأ حمزة {ما أخفي} بسكون الياء على أنه فعل مضارع مسند إلى الله سبحانه، وقرأ الباقون بفتحها فعلاً ماضياً مبنياً للمفعول. وقرأ ابن مسعود: {ما نخفي} بالنون مضمومة، وقرأ الأعمش: {يخفي} بالتحتية مضمومة. قال الزجاج في معنى قراءة حمزة: أي منه ما أخفى الله لهم، وهي قراءة محمد بن كعب، و{ما} في موضع نصب. ثم بيّن سبحانه أن ذلك بسبب أعمالهم الصالحة، فقال: {جَزَاء بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} أي لأجل الجزاء بما كانوا يعملونه في الدنيا أو جوزوا جزاء بذلك.
{أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً} الاستفهام للإنكار، أي ليس المؤمن كالفاسق، فقد ظهر ما بينهما من التفاوت، ولهذا قال: {لاَّ يَسْتَوُونَ} ففيه زيادة تصريف لما أفاده الإنكار الذي أفاده الاستفهام. قال الزجاج: جعل الاثنين جماعة حيث قال: {لاَّ يَسْتَوُونَ} لأجل معنى من، وقيل: لكون الاثنين أقلّ الجمع، وسيأتي بيان سبب نزولها آخر البحث. ثم بيّن سبحانه عاقبة حال الطائفتين وبدأ بالمؤمنين فقال: {أَمَّا الذين ءامَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات فَلَهُمْ جنات المأوى} قرأ الجمهور: {جنات} بالجمع. وقرأ طلحة بن مصرف: {جنة المأوى} بالإفراد، والمأوى هو الذي يأوون إليه، وأضاف الجنات إليه، لكونه المأوى الحقيقي. وقيل: المأوى: جنة من الجنات، وقد تقدّم الكلام على هذا، ومعنى {نُزُلاً}: أنها معدّة لهم عند نزولهم، وهو في الأصل: ما يعدّ للنازل من الطعام والشراب كما بيّناه في آل عمران، وانتصابه على الحال.
وقرأ أبو حيوة: {نزلاً} بسكون الزاي. والباء في {بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ} للسببية، أي بسبب ما كانوا يعملونه، أو بسبب عملهم.
ثم ذكر الفريق الآخر، فقال: {وَأَمَّا الذين فَسَقُواْ} أي خرجوا عن طاعة الله وتمرّدوا عليه وعلى رسله {فَمَأْوَاهُمُ النار} أي منزلهم الذي يصيرون إليه ويستقرون فيه هو النار {كُلَّمَا أَرَادُواْ أَن يَخْرُجُواُ مِنْهَا أُعِيدُواْ فِيهَا} أي إذا أرادوا الخروج منها ردّوا إليها راغمين مكرهين. وقيل: إذ دفعهم اللهب إلى أعلاها ردّوا إلى مواضعهم {وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُواْ عَذَابَ النار الذي كُنتُمْ بِهِ تُكَذّبُونَ} والقائل لهم هذه المقالة هو خزنة جهنم من الملائكة، أو القائل لهم هو الله عزّ وجلّ، وفي هذا القول لهم حال كونهم قد صاروا في النار من الإغاظة ما لا يخفى. {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الأدنى} وهو عذاب الدنيا. قال الحسن وأبو العالية والضحاك والنخعي: هو مصائب الدنيا وأسقامها. وقيل: الحدود. وقيل: القتل بالسيف يوم بدر. وقيل: سنين الجوع بمكة. وقيل: عذاب القبر، ولا مانع من الحمل على الجميع {دُونَ العذاب الأكبر} وهو عذاب الآخرة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} مما هم فيه من الشرك والمعاصي بسبب ما ينزل بهم من العذاب إلى الإيمان والطاعة ويتوبون عما كانوا فيه. وفي هذا التعليل دليل على ضعف قول من قال: إن العذاب الأدنى هو عذاب القبر.
{وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكّرَ بئايات رَبّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا} أي لا أحد أظلم منه لكونه سمع من آيات الله ما يوجب الإقبال على الإيمان والطاعة، فجعل الإعراض مكان ذلك، والمجيء بثمّ للدلالة على استبعاد ذلك. وأنه مما ينبغي أن لا يكون {إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ} أي من أهل الإجرام على العموم فيدخل فيه من أعرض عن آيات الله دخولاً أوّلياً.
وقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن عباس في قوله: {إِنَّا نسيناكم} قال: تركناكم.
وأخرج البيهقي في الشعب عنه قال: نزلت هذه الآية في شأن الصلوات الخمس: {إِنَّمَا يُؤْمِنُ بئاياتنا الذين إِذَا ذُكّرُواْ بِهَا خَرُّواْ سُجَّداً} أي أتوها {وَسَبَّحُواْ} أي صلوا بأمر ربهم {وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ} عن إتيان الصلاة في الجماعات.
وأخرج الترمذي وصححه، وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه، ومحمد بن نصر في كتاب الصلاة عن أنس بن مالك: أن هذه الآية {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} نزلت في انتظار الصلاة التي تدعى العتمة.
وأخرج البخاري في تاريخه، وابن مردويه عنه قال: نزلت في صلاة العشاء.
وأخرج الفريابي وابن جرير وابن أبي حاتم وابن مردويه عنه أيضاً في الآية قال: كانوا لا ينامون حتى يصلوا العشاء.
وأخرج ابن أبي شيبة عنه قال: كنا نجتنب الفرش قبل صلاة العشاء.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف، وابن مردويه عنه أيضاً قال: ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم راقداً قط قبل العشاء، ولا متحدّثاً بعدها، فإن هذه الآية نزلت في ذلك: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع}.
وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: {تتجافى جنوبهم عن المضاجع} قال: «هم الذين لا ينامون قبل العشاء فأثنى عليهم» فلما ذكر ذلك جعل الرجل يعتزل فراشه مخافة أن تغلبه عينه فوقتها قبل أن ينام الصغير ويكسل الكبير.
وأخرج ابن مردويه عن بلال قال: كنا نجلس في المسجد وناس من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يصلون بعد المغرب العشاء تتجافى جنوبهم عن المضاجع.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد وابن عديّ وابن مردويه عن أنس نحوه.
وأخرج ابن أبي شيبة وأبو داود ومحمد بن نصر وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن أنس في قوله: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} قال: كانوا ينتظرون ما بين المغرب والعشاء يصلون.
وأخرج أحمد وابن جرير وابن مردويه عن معاذ بن جبل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم في قوله: {تتجافى جُنُوبُهُمْ} قال: قيام العبد من الليل.
وأخرج أحمد والترمذي وصححه والنسائي وابن ماجه وابن نصر في كتاب الصلاة وابن جرير وابن أبي حاتم والحاكم وصححه وابن مردويه والبيهقي في الشعب عن معاذ بن جبل عن النبيّ صلى الله عليه وسلم، وذكر حديثاً وأرشد فيه إلى أنواع من الطاعات، وقال فيه: «وصلاة الرجل في جوف الليل»، ثم قرأ: {تتجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ المضاجع} وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة مرفوعاً في حديث قال فيه: «وصلاة المرء في جوف الليل»، ثم تلا هذه الآية.
وأخرج ابن مردويه عن أنس في الآية قال: كان لا تمرّ عليهم ليلة إلا أخذوا منها.
وأخرج عبد الله بن أحمد في زوائد الزهد من طريق أبي عبد الله الجدلي عن عبادة بن الصامت عن كعب قال: «إذا حشر الناس نادى مناد: هذا يوم الفصل أين الذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع» الحديث.
وأخرج ابن جرير عن ابن عباس في الآية يقول: تتجافى لذكر الله كلما استيقظوا ذكروا الله، إما في الصلاة، وإما في القيام أو القعود. أو على جنوبهم لا يزالون يذكرون الله.
وأخرج الفريابي وعبد بن حميد وابن جرير ومحمد بن نصر وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ، والحاكم وصححه، والبيهقي في البعث عن ابن عباس قال: كان عرش الله على الماء، فاتخذ جنة لنفسه. ثم اتخذ دونها أخرى، ثم أطبقهما بلؤلؤة واحدة، ثم قال: {وَمِن دُونِهِمَا جَنَّتَانِ} [الرحمن: 62] لم يعلم الخلق ما فيهما.
وهي التي قال الله: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ} تأتيهم منها كل يوم تحفة.
وأخرج الفريابي وابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه عن ابن مسعود قال: إنه لمكتوب في التوراة: لقد أعدّ الله للذين تتجافى جنوبهم عن المضاجع ما لم تر عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، ولا يعلم ملك مقرّب ولا نبيّ مرسل، وإنه لفي القرآن: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}.
وأخرج البخاري ومسلم وغيرهما عن أبي هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر» قال أبو هريرة: واقرؤوا إن شئتم: {فَلاَ تَعْلَمُ نَفْسٌ مَّا أُخْفِيَ لَهُم مّن قُرَّةِ أَعْيُنٍ}. وفي الباب أحاديث عن جماعة من الصحابة، وهي معروفة فلا نطول بذكرها.
وأخرج أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني، والواحدي وابن عدي وابن مردويه والخطيب وابن عساكر من طرق عن ابن عباس قال: قال الوليد بن عقبة لعليّ بن أبي طالب: أنا أحدّ منك سناناً، وأنشط منك لساناً، وأملأ للكتيبة منك، فقال له عليّ: اسكت فإنما أنت فاسق، فنزلت: {أَفَمَن كَانَ مُؤْمِناً كَمَن كَانَ فَاسِقاً لاَّ يَسْتَوُونَ} يعني بالمؤمن: علياً، وبالفاسق: الوليد بن عقبة بن أبي معيط.
وأخرج ابن مردويه والخطيب وابن عساكر عنه في الآية نحوه.
وروي نحو هذا عن عطاء بن يسار والسديّ، وعبد الرحمن بن أبي ليلى.
وأخرج الفريابي وابن منيع وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني، والحاكم وصححه وابن مردويه، والبيهقي في الدلائل عن ابن مسعود في قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الأدنى} قال: يوم بدر {دُونَ العذاب الأكبر} قال: يوم القيامة {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال: لعلّ من بقي منهم أن يتوب فيرجع.
وأخرج ابن أبي شيبة والنسائي وابن المنذر والحاكم وصححه وابن مردويه عن ابن مسعود في الآية قال: العذاب الأدنى: سنون أصابتهم {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال: يتوبون.
وأخرج مسلم وعبد الله بن أحمد في زوائد المسند وأبو عوانة في صحيحه وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم والحاكم وصححه والبيهقي في الشعب عن أبيّ بن كعب في قوله: {وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مّنَ العذاب الأدنى} قال: مصائب الدنيا والروم، والبطشة والدخان.
وأخرج ابن جرير عنه قال: يوم بدر.
وأخرج عبد بن حميد وابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس: {مّنَ العذاب الأدنى} قال: الحدود {لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ} قال: يتوبون.
وأخرج ابن منيع وابن جرير وابن أبي حاتم والطبراني وابن مردويه، قال السيوطي بسند ضعيف، عن معاذ بن جبل: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ثلاث من فعلهنّ فقد أجرم: من عقد لواء في غير حق، أو عقّ والديه، أو مشى مع ظالم لينصره فقد أجرم، يقول الله: {إِنَّا مِنَ المجرمين مُنتَقِمُونَ}» قال ابن كثير بعد إخراجه: هذا حديث غريب.


قوله: {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب} أي التوراة {فَلاَ تَكُن} يا محمد {فِي مِرْيَةٍ} أي شك، وريبة {مّن لّقَائِهِ} قال الواحدي: قال المفسرون: وعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سيلقى موسى قبل أن يموت، ثم لقيه في السماء أو في بيت المقدس حين أسري به. وهذا قول مجاهد والكلبي والسديّ. وقيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى في القيامة وستلقاه فيها. وقيل: فلا تكن في شك من لقاء موسى للكتاب. قاله الزجاج.
وقال الحسن: إن معناه: ولقد آتينا موسى الكتاب فكذّب وأوذي، فلا تكن في شك من أنه سيلقاك ما لقيه من التكذيب والأذى، فيكون الضمير في لقائه على هذا عائداً على محذوف، والمعنى: من لقاء ما لاقى موسى. قال النحاس: وهذا قول غريب. وقيل: في الكلام تقديم وتأخير، والمعنى: قل يتوفاكم ملك الموت الذي وكل بكم، فلا تكن في مرية من لقائه، فجاء معترضاً بين {وَلَقَدْ ءَاتَيْنَا موسى الكتاب} وبين {وجعلناه هُدًى لّبَنِي إسراءيل} وقيل: الضمير راجع إلى الكتاب الذي هو الفرقان كقوله: {وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى القرءان} [النمل: 6] والمعنى: أنا آتينا موسى مثل ما آتيناك من الكتاب، ولقيناه مثل ما لقيناك من الوحي، فلا تكن في شك من أنك لقيت مثله ونظيره، وما أبعد هذا، ولعلّ الحامل لقائله عليه قوله: {وجعلناه هُدًى لّبَنِي إسراءيل} فإن الضمير راجع إلى الكتاب. وقيل: إن الضمير في {لقائه} عائد إلى الرجوع المفهوم من قوله: {ثُمَّ إلى رَبّكُمْ تُرْجَعُونَ} أي لا تكن في مرية من لقاء الرجوع، وهذا بعيد أيضاً.
واختلف في الضمير في قوله: {وجعلناه} فقيل: هو راجع إلى الكتاب، أي جعلنا التوراة هدى لبني إسرائيل، قاله الحسن وغيره.
وقال قتادة: إنه راجع إلى موسى، أي وجعلنا موسى هدى لبني إسرائيل.
{وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً} أي قادة يقتدون به في دينهم، وقرأ الكوفيون: {أئمة} قال النحاس: وهو لحن عند جميع النحويين، لأنه جمع بين همزتين في كلمة واحدة، ومعنى {يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا}: أي يدعونهم إلى الهداية بما يلقونه إليه من أحكام التوراة ومواعظها بأمرنا، أي بأمرنا لهم بذلك، أو لأجل أمرنا.
وقال قتادة: المراد بالأئمة: الأنبياء منهم. وقيل: العلماء {لَمَّا صَبَرُواْ} قرأ الجمهور: {لما} بفتح اللام وتشديد الميم، أي حين صبروا، والضمير للأئمة، وفي {لما} معنى: الجزاء، والتقدير: لما صبروا جعلناهم أئمة. وقرأ حمزة والكسائي وخلف وورش عن يعقوب ويحيى بن وثاب بكسر اللام وتخفيف الميم، أي جعلناهم أئمة لصبرهم، واختار هذه القراءة أبو عبيد مستدلاً بقراءة ابن مسعود: {بما صبروا} بالباء، وهذا الصبر هو صبرهم على مشاقّ التكليف والهداية للناس، وقيل: صبروا عن الدنيا {وَكَانُواْ بئاياتنا} التنزيلية {يُوقِنُونَ} أي يصدّقونها، ويعلمون أنها حق، وأنها من عند الله؛ لمزيد تفكرهم، وكثرة تدبرهم.
{إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ} أي يقضي بينهم ويحكم بين المؤمنين والكفار {يَوْمَ القيامة فِيمَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ} وقيل: يقضي بين الأنبياء، وأممهم، حكاه النقاش. {أَوَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ} أي أو لم يبين لهم، والهمزة للإنكار، والفاعل ما دلّ عليه {كَمْ أَهْلَكْنَا مِن قَبْلِهِمْ مّنَ القرون} أي أو لم نبين لهم كثرة إهلاكنا من قبلهم. قال الفراء: كم في موضع رفع ب {يهد}.
وقال المبرد: إن الفاعل: الهدى المدلول عليه ب {يهد}، أي أو لم يهد لهم الهدى.
وقال الزجاج: {كم} في موضع نصب ب {أهلكنا}، قرأ الجمهور: {أو لم يهد} بالتحتية، وقرأ السلمي وقتادة وأبو زيد عن يعقوب بالنون، وهذه القراءة واضحة. قال النحاس: والقراءة بالياء التحتية فيها إشكال؛ لأنه يقال: الفعل لا يخلو من فاعل فأين الفاعل ل {يهد}؟ ويجاب عنه بأن الفاعل هو ما قدّمنا ذكره، والمراد بالقرون: عاد وثمود ونحوهم، وجملة: {يَمْشُونَ فِي مساكنهم} في محل نصب على الحال من ضمير لهم، أي والحال أنهم يمشون في مساكن المهلكين ويشاهدونها، وينظرون ما فيها من العبر، وآثار العذاب. ولا يعتبرون بذلك. وقيل: يعود إلى المهلكين، والمعنى: أهلكناهم حال كونهم ماشين في مساكنهم، والأوّل أولى {إِنَّ فِي ذَلِكَ} المذكور {لآيَاتٍ} عظيمات، {أَفَلاَ يَسْمَعُونَها}، ويتعظون بها.
{أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الأرض الجرز} أي أو لم يعلموا بسوقنا الماء إلى الأرض التي لا تنبت إلا بسوق الماء إليها. وقيل: هي اليابسة، وأصله من الجرز وهو: القطع أي التي قطع نباتها لعدم الماء، ولا يقال للتي لا تنبت أصلاً كالسباخ جرز لقوله: {فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً} قيل: هي أرض اليمن. وقيل: أرض عدن.
وقال الضحاك: هي الأرض العطشى.
وقال الفراء: هي الأرض التي لا نبات فيها.
وقال الأصمعي: هي الأرض التي لا تنبت شيئاً. قال المبرد: يبعد أن تكون لأرض بعينها لدخول الألف واللام. وقيل: هي مشتقة من قولهم رجل جروز: إذا كان لا يبقي شيئاً إلا أكله، ومنه قول الراجز:
خب جروز وإذا جاع بكى *** ويأكل التمر ولا يلقي النوى
وكذلك ناقة جروز: إذا كانت تأكل كل شيء تجده.
وقال مجاهد: إنها أرض النيل؛ لأن الماء إنما يأتيها في كل عام {فَنُخْرِجُ بِهِ}، أي بالماء {زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أنعامهم} أي من الزرع كالتبن والورق ونحوهما مما لا يأكله الناس {وَأَنفُسِهِمْ} أي يأكلون الحبوب الخارجة في الزرع مما يقتاتونه، وجملة: {تَأْكُلُ مِنْهُ أنعامهم} في محلّ نصب على الحال {أَفَلاَ يُبْصِرُونَ} هذه النعم ويشكرون المنعم ويوحدونه، لكونه المنفرد بإيجاد ذلك.
{وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صادقين} القائلون هم الكفار على العموم، أو كفار مكة على الخصوص، أي متى الفتح الذي تعدونا به، يعنون بالفتح: القضاء والفصل بين العباد، وهو يوم البعث الذي يقضي الله فيه بين عباده، قاله مجاهد وغيره.
وقال الفراء والقتيبي: هو فتح مكة. قال قتادة: قال أصحاب النبيّ صلى الله عليه وسلم للكفار: إن لنا يوماً ننعم فيه ونستريح ويحكم الله بيننا وبينكم، يعنون يوم القيامة، فقال الكفار: متى هذا الفتح؟ وقال السديّ: هو يوم بدر، لأن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كانوا يقولون للكفار: إن الله ناصرنا ومظهرنا عليكم، و{متى} في قوله: {متى هذا الفتح} في موضع رفع، أو في موضع نصب على الظرفية.
ثم أمر الله سبحانه نبيه صلى الله عليه وسلم أن يجيب عليهم، فقال: {قُلْ يَوْمَ الفتح لاَ يَنفَعُ الذين كَفَرُواْ إيمانهم وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ} وفي هذا دليل على أن يوم الفتح هو يوم القيامة؛ لأن يوم فتح مكة ويوم بدر هما مما ينفع فيه الإيمان.
وقد أسلم أهل مكة يوم الفتح، وقبل ذلك منهم النبيّ صلى الله عليه وسلم، ومعنى {وَلاَ هُمْ يُنظَرُونَ}: لا يمهلون ولا يؤخرون، {ويوم} في {يوم الفتح} منصوب على الظرفية، وأجاز الفراء الرفع {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ} أي عن سفههم وتكذيبهم ولا تجبهم إلا بما أمرت به {وانتظر إِنَّهُمْ مُّنتَظِرُونَ} أي وانتظر يوم الفتح، وهو يوم القيامة، أو يوم إهلاكهم بالقتل، إنهم منتظرون بك حوادث الزمان من موت أو قتل أو غلبة كقوله: {فَتَرَبَّصُواْ إِنَّا مَعَكُمْ مُّتَرَبّصُونَ} [التوبة: 52] ويجوز أن يراد: إنهم منتظرون لإهلاكهم، والآية منسوخة بآية السيف. وقيل: غير منسوخة، إذ قد يقع الإعراض مع الأمر بالقتال. وقرأ ابن السميفع: {إنهم منتظرون} بفتح الظاء مبنياً للمفعول، ورويت هذه القراءة عن مجاهد وابن محيصن. قال الفراء: لا يصح هذا إلا بإضمار، أي إنهم منتظر بهم. قال أبو حاتم: الصحيح الكسر، أي انتظر عذابهم إنهم منتظرون هلاكك.
وقد أخرج البخاري ومسلم وغيرهما من حديث ابن عباس قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: «رأيت ليلة أسري بي موسى بن عمران رجلاً طويلاً جعداً كأنه من رجال شنوءة، ورأيت عيسى ابن مريم مربوع الخلق إلى الحمرة والبياض سبط الرأس، ورأيت مالكاً خازن جهنم والدجال في آيات أراهنّ الله إياه» قال: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ} فكان قتادة يفسرها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قد لقي موسى {وجعلناه هُدًى لّبَنِي إسراءيل} قال: جعل الله موسى هدى لبني إسرائيل.
وأخرج الطبراني وابن مردويه والضياء في المختارة بسند، قال السيوطي: صحيح، عن ابن عباس عن النبي صلى الله عليه وسلم: {فَلاَ تَكُن فِي مِرْيَةٍ مّن لّقَائِهِ} قال: «من لقاء موسى»، قيل: أو لقي موسى؟ قال: نعم، ألا ترى إلى قوله: {وَسْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنَا مِن قَبْلِكَ مِن رُّسُلِنَا} [الزخرف: 45].
وأخرج الفريابي، وابن جرير وابن أبي حاتم عن ابن عباس في قوله: {أَوَ لَمْ يَرَوْاْ أَنَّا نَسُوقُ الماء إِلَى الأرض الجرز} قال: الجرز التي لا تمطر إلا مطراً لا يغني عنها شيئاً إلا ما يأتيها من السيول.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير، وابن المنذر وابن أبي حاتم عنه في قوله: {إِلَى الأرض الجرز} قال: أرض باليمن. قال القرطبي في تفسيره: والإسناد عن ابن عباس صحيح لا مطعن فيه.
وأخرج الحاكم وصححه، والبيهقي في الدلائل عن ابن عباس في قوله: {وَيَقُولُونَ متى هذا الفتح إِن كُنتُمْ صادقين} قال: يوم بدر فتح للنبي صلى الله عليه وسلم فلم ينفع الذين كفروا إيمانهم بعد الموت.